فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين، وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأَذِيَّة، وعِدَةٌ ضِمْنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر. وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ (رسلٌ) للتفخيم والتكثير، و(من) إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوفٍ وقع صفةً (لرسلٌ) أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله تعالى: {وَأُوذُواْ} عطف على (كُذبوا) داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالك من قومك، والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالبًا، وأيًا ما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية، وقيل: عطفٌ على صبروا وقيل: على كذبت، وقيل: هو استئناف وقوله تعالى: {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غايةٌ للصبر، وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لابد من إتيانه ألبتةَ، والالتفاتُ إلى نون العظمة لإبراز الاعتناء بشأن النصر. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين {رُسُلُ} للتفخيم والتكثير، و(من) متعلقة بكذبت، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك.
{فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} {ما} مصدرية وقوله: {وَأُوذُواْ} عطف على {كَذَّبُواْ} داخل في حكمه، ومصدر كذب التكذيب، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب القاموس: ولا تقل إيذاء خطأ، والذي غرَّه ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبًا، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على {كَذَّبَتْ} أو على {صَبَرُواْ} وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافًا ثم رجح الأول.
وقوله سبحانه: {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غاية للصبر، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.
{وَلا مُبَدِّلَ لكلَمَات الله} تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا كقوله تعالى: {...} تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا كقوله تعالى: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله عز شأنه: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 172، 173] وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًا، والالتفات إلى الاسم الجليل كما قيل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحدًا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد.
{وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظًا ومعنى.
وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفًا في ذلك لسيبويه فاعل (جاء)، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان، والجار متعلق بمحذوف وقع حالًا منه، وقيل وإليه يشير كلام الرماني إنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال أبو حيان: الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه.
وقيل وربما يشعر به كلام الكشاف: إن من هي الفاعل، والمراد بعض أنبائهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} عطف على جملة {فإنّهم لا يكذّبونك} [الأنعام: 33] أو على جملة {ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء، أي فلا تحزن، أو إن أحزنك ذلك فإنّهم لا يكذّبونك والحال قد كذّبت رسل من قبلك.
والكلام على كلّ تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأنّ إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله؛ فإنّهم كذّبوا بالقول والاعتقاد وأمّا قومه فكذّبوا بالقول فقط.
وفي الكلام أيضًا تأسَ للرسول بمن قبله من الرسل.
ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من ذهل طويلًا عن تكذيب الرسل لأنّه لمّا أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعُد علمه بذلك.
و{من قبلك} وصف كاشف لِ {رُسل} جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل.
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم، فإنّ الأمم كذّبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها، والعرب كذّبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف.
و(ما) مصدرية، أي صبروا على التكذيب، فيجوز أن يكون قوله: {وأوذوا} عطفًا على {كذّبوا} وتكون جملة {فصبروا} معترضة.
والتقدير: ولقد كذّبت وأوذيَت رسل فصبروا.
فلا يعتبر الوقف عند قوله: {على ما كذّبوا} بل يوصل الكلام إلى قوله: {نَصْرُنَا}، وأن يكون عطفًا على {كُذّبت رسل}، أي كذّبت وأوذوا.
ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأنّ التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله: {على ما كذّبوا}.
وقرن فعل {كذّبت} بعلامة التأنيث لأنّ فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجّح اتِّصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة.
ومن ثمّ جاء فعلا {فصبروا} و{كذّبوا} مقترنين بواو الجمع، لأنّ فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير.
وعطف {وأوذوا} على {كذّبت} عطف الأعمّ على الأخصّ، والأذى أعمّ من التكذيب، لأنّ الأذى هو ما يسوء ولو إساءة مّا، قال تعالى: {لن يضرّوكم إلاّ أذى} [آل عمران: 111] ويطلق على الشديد منه.
فالأذى اسم اشتقّ منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه به.
فالهمزة به للجعل أو للتصيير.
ومصادر هذا الفعل أذى وأذَاة وأذيَّة.
وكلّها أسماء مصادر وليست مصادر.
وقياس مصدره الإيذاء لكنّه لم يسمع في كلام العرب.
فلذلك قال صاحب القاموس: لا يقال: إيذاء.
وقال الراغب: يقال: إيذاء.
ولعلّ الخلاف مبني على الخلاف في أنّ القياسي يصحّ إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقّف إطلاقه على سماع نوعه من مادّته.
ومن أنكر على صاحب القاموس فقد ظلمه.
وأيًّا ما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته.
ولقد يعدّ على صاحب الكشاف استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة.
و{حتَّى} ابتدائية أفادت غاية ما قبلها، وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما، فإنّ النصر كان بإهلاك المكذّبين المؤذين، فكان غاية للتكذيب والأذى، وكان غاية للصبر الخاصّ، وهو الصبر على التكذيب والأذى، وبقي صبر الرسل على أشياء ممّا أمر بالصبر عليه.
والإتيان في قوله: {أتاهم نصرنا} مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره، فشبِّه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادى المنتظر.
وتقدّم بيان هذا عند قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين} في هذه السورة [4].
وجملة {ولا مبدّل} عطف على جملة: {أتاهم نصرنا}.
وكلمات الله وحيه للرسل الدّالّ على وعده إيّاهم بالنصر، كما دلّت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة.
فالمراد كلمات من نوع خاصّ، فلا يرد أنّ بعض كلمات الله في التشريع قد تبدّل بالنسخ؛ على أنّ التبديل المنفي مجاز في النقض، كما تقدّم في قوله تعالى: {فمَن بدّله بعدما سَمعَه} في سورة [البقرة: 181].
وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى: {وتمّت كلمات ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلماته} في هذه السورة [115].
وهذا تطمين للنبيء بأنّ الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل، ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم، أي أنّ إهلاك المكذّبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم.
ونفي المُبدّل كناية عن نفي التبذيل، أي لا تبديل، لأنّ التبديل لا يكون إلاّ من مبدّل.
ومعناه: أنّ غير الله عاجز عن أن يبدّل مراد الله، وأن الله أراد أن لا يبدّل كلماته في هذا الشأن.
وقوله: {ولقد جاءك من نبإ المرسلين} عطف على جملة: {ولا مبدّل لكلمات الله}، وهو كلام جامع لتفاصيل ما حلّ بالمكذّبين، وبكيف كان نصر الله رسله.
وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك.
والقول في {جاءك} كالقول في {أتاهم نصرُنا}، فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به.
و(مِنْ) في قوله: {مِنْ نبأ} إمّا اسم بمعنى (بعض) فتكون فاعلًا مضافة إلى النبأ، وهو ناظر إلى قوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78].
والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره: لقد جاءك نَبَأ من نَبَأ المرسلين.
والنبأ الخبر عن أمر عظيم، قال تعالى: {عمّ يتساءلون عن النّبأ العظيم} [النبأ: 1، 2]، وقال: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} [ص: 67، 68]، وقال في هذه السورة [67] {لكلّ نبإ مُسْتَقرّ وسوف تعلمون}. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {ولا مبدل لكلمات الله} يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه، فذلك الخبر ممتنع التغير، وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه.
فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالًا.
فكان تكليفه بالإيمان تكليفًا بما لا يطاق. والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} يحتمل أربعة تأويلات:
أحدها: معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه.
والثاني: معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه، وأوجبه من هلاك أعدائه.
والثالث: معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ.
والرابع: معناه لا يشتبه ما تخرّصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا مبدل لكلمات الله} فيه خمسة أقوال:
أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس.
والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج.
والثالث: لا مبدل لحكوماته، وأقضيته النافذة في عباده، فعبَّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله: {ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} [الزمر: 71] أي: وجب ما قضي عليهم.
فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقوله: {لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21].
والرابع: أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار، فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله: {لا ريب فيه} [البقرة: 2].
والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري. اهـ.